منزل هانسن: تجربة الشكل المفتوح بين العمارة والطبيعة
عند اقترابك لأول مرة من **منزل هانسن**، ما يلفت انتباهك مباشرة هو جدار غير اعتيادي: ليس حاجزًا محكمًا يفصل الداخل عن الخارج، بل حاجز *نفّاذ* يتفاعل مع البيئة المحيطة ويسمح للطبيعة بأن تتسلل إلى الداخل. ويؤكد ذلك **سقف مثلثي** يربط الحديقة بالمنزل ويرسّخ رسالة معمارية أساسية: البيت وبيئته كيان واحد متكامل، لا ينفصل أحدهما عن الآخر. جوهر هذه الفلسفة يكمن في ما يُسمّى **العمارة ذات الشكل المفتوح** أو "Open Form"؛ حركة أطلقها أوسكار هانسن وزوجته زوفيا في خمسينيات القرن الماضي، وظهرت بوضوح في تفاصيل منزلهما وتجربتهما الحياتية. وكما يشير الاسم، ترتكز هذه الفكرة على تكسير الحدود التقليدية بين الداخل والخارج، والتركيز على المستخدم ودوره، وتحدي الصرامة الحداثية التي دعا إليها لو كوربوزييه. عبر الفتحات والنوافذ المصمّمة خصيصًا، تظهر منازل هانسن كمشهد أخضر متجدد، حيث يرى الزائر لمحاتٍ من الأشجار والحدائق كإطار حي للمنزل. ويصف القيّم على منزل هانسن بأن **الشكل المفتوح هو إطار مرجعي ننظر من خلاله إلى العالم**، كما صرح في حديثه مع إحدى وسائل الإعلام.فلسفة الشكل المفتوح والتمرّد على التقليد
يقول أوسكار هانسن أن الشكل المفتوح هو أكثر من مجرد أسلوب معماري: **هو طريقة تفكير وفلسفة حياة**. هذه النظرية نشأت كرفض للبنية الجامدة للعمارة الحداثية في منتصف القرن العشرين، ودعت بدلاً من ذلك لمشاركة المستخدم في صنع البيئة من حوله واستمرار تطورها مع الزمن. دعا هانسن إلى أن يكون المبنى بمثابة *إطار* يسمح لفردية الناس اليومية بالتعبير عن نفسها داخله، وأن يكون بمثابة المشهد الذي تعيش فيه "أحداث الحياة". في المقابل، يرى هانسن بأن **الشكل المغلق**—كتمثال تقليدي ثابت في منتصف ساحة—ينزع للجمود والسلطة والسيطرة. أما الشكل المفتوح فهو يدعو للحوار والتكامل مع المجتمع والبيئة والطبيعة، حتى أنه ربط بينه وبين مفاهيم *الإيكولوجيا* وفهم موقع الإنسان في الطبيعة، بينما اعتبر الشكل المغلق رمزًا للحروب والدمار.منزل هانسن: بين البساطة والعبقرية
منزل هانسن في قرية شومين قرب وارسو ليس مجرد مأوى، بل تجربة معمارية فريدة تشارك الناحية العملية مع الجمالية والرمزية. بني المنزل بالكامل من **مواد مستعملة ومعاد تدويرها** وعوارض خشبية تم العثور عليها بين المخلفات، ما يبرز مبدأ إمكانية خلق *أعظم الإنجازات المعمارية بأقل الإمكانات المادية، بفضل الإبداع والخيال*. يقول القيّم على المنزل: «هنا يثبت لنا الهانسنز أن بإمكانك إنتاج عمل فني مذهل جدًا بتكلفة ضئيلة بالاعتماد على الخيال، والإبداع، والموهبة.» كل تفاصيل المنزل تم تشكيلها بمجهود العائلة، من الأرض حتى الجدران، وبتعاون مباشر مع سكان القرية المحيطة وأصدقاء العائلة وأطفالهم.لمسة زوفيا وعبقرية المشاركة
زوفيا هانسن، زوجة أوسكار، كانت هي الأخرى مهندسة معمارية بارزة تركت بصمتها في كل زاوية من المنزل. تميّزت مشاركتها بالاستفادة من آخر توجهات عصرها حول أهمية وجود المساحات الخضراء وحماية خصوصية الأطفال في الأحياء السكنية، ومنع غزو السيارات لها. تعاون الزوجان بشكل وثيق في تصميم كل تفصيلة، وتعد علاقتهما مثالاً على تكامل الأفكار والإبداع التشاركي في العمل والحياة.مجتمع حي وتفاعل اجتماعي
يروي الجيران، ومنهم السيدة واندا التي جاورت آل هانسن لأربعة عقود، كيف كان منزل هانسن وجواره مساحة للتلاقي وتبادل الأحاديث والضحكات والأخبار اليومية. وُضعت مقاعد تقليدية خارج البيت لإحياء عادة اجتماعية بولندية قديمة باستقبال الجيران، وجعلوا من البيت مكانًا للتفاعل لا الانعزال. حتى في تصميم الحديقة والأشجار، أضفى آل هانسن لمسة شخصية فريدة، إذ سُمِيّت الأشجار بأسماء أفراد العائلة والأصدقاء والأعلام؛ فثمة شجرة تحمل اسم "إيغور" وأخرى "ألفار"، وفي الطرف المقابل تبدو شجرة "زوفيا" وتحتها شجرة "أوسكار".في الداخل: التفاعل واللعب والمعنى
عند التجول في الداخل، يكتشف الزائر أدوات تعليمية وتشكيلية فريدة؛ **طاولة ذات ألواح متعددة الألوان** يمكن ترتيبها بحسب حالة المزاج أو رغبة الضيف، في ممارسة أشبه بـ"الألعاب البصرية" التي كان أوسكار يشجع الطلاب عليها خلال تدريسه في أكاديمية الفنون الجميلة بوارسو. الألوان عنصر أساسي في لغة المنزل؛ الأبيض، مثلاً، يُستعمل لإرشاد الضيف إلى المسارات أو الوظائف داخل البيت، في حين يتغير توزيع الألوان بين الداخل والخارج فينقلب الرمادي إلى الأبيض والعكس، للدلالة على الانتقال بين عالمي الخاص والعام. توجد استوديوهات متعددة منها استوديو أوسكار المضاء بالنور الطبيعي، حيث كان يعمل ليلاً لساعات طويلة على تصاميمه ومشاريعه، واستوديو آخر لصناعة الأثاث، ومرآب يحوي تراث سيارته القديمة. حتى الحمام يحظى بلمسة شاعرية؛ إذ سقفه من الزجاج الشفاف يسمح بسقوط أوراق الأشجار عليه في الخريف، كما أحبته زوفيا.منزل حي لا متحف جامد
منذ أن انتقلت ملكية المنزل إلى **متحف الفن الحديث في وارسو**، صُمّم أن يبقى مزيجًا مزدهرًا بالحياة والنشاط، وليس متحفًا جامدًا. يُقام داخله ورشٌ وفعاليات ومناسبات ويستضيف الطلاب والزوار من أنحاء العالم، ليتمكنوا من المشاركة في الأعمال والنشاطات الإبداعية، واختبار الحياة في البيت كما عاشها آل هانسنز. يقول ابنهما إيغور: «أريد للزائرين أن يعيشوا في هذا البيت لبعض الوقت، أن يشعروا بالراحة، أن يختبروا كل ركن ويذوبوا في الأجواء التي أبدعها والداي.»أصداء الحركة وتأثيرها
انطلقت فلسفة **الشكل المفتوح** من العمارة، لكنها امتدت للفنون التشكيلية والأداء والتعليم، فأثرت على أجيال من الفنانين والطلاب والمؤسسات. كانت جوهرها رؤية تربوية تساوي بين المدرّس والطالب، وتنادي بالتجربة والديمقراطية في تشكيل الفضاء والعمل الجماعي. تحضّ هذه الفلسفة على جعل كل فرد جزءًا فاعلاً ومسؤولًا في بيئته، وتؤكد أن أي عمل فني أو معماري يكتمل فقط حين *يستولي عليه المستخدم ويعيد صياغته* بحسب حاجاته وتجاربه ورغباته. أن تقف في منزل آل هانسن، أنت لا تشاهد فقط عملًا معماريًا بل تجربة إنسانية مفتوحة؛ منزل يدرّس الضيف والزائر والسكان دروسًا عميقة في الإبداع، والدمج بين الذاتي والجمعي، وفي احترام الطبيعة والاقتصاد والخيال. قسمٌ كبير من إرث أوسكار هانسن المعماري والتعليمي والفني يمكن اختصاره في جملة جوهرية:"العمارة الجيدة لا تفرض نفسها علينا ولا تسيطر علينا؛ إنها ببساطة توفر لنا أرضية خلفية للحياة—بشرية ومرنة ومفتوحة على الدوام."
المصطلحات الأساسية:
- الشكل المفتوح ("Open Form"): فلسفة معمارية وفنية تسمح للمستخدم أن يكون مشاركًا فعالًا في تشكيل الفضاء، وتؤكد أن العمل غير مكتمل حتى يتفاعل معه الناس.
- الشكل المغلق ("Closed Form"): الطريقة التقليدية الصارمة في التصميم، تفرض السلطة وتحجب التغيير أو مشاركة المستخدم.
- تداخل الداخل والخارج: إزالة أو تذويب الفوارق بين المساحات الخاصة والعامة، وبين الطبيعة والمبنى.
تمتد رسالة منزل آل هانسن وفلسفة الشكل المفتوح لتلهم المعماريين والفنانين والمجتمعات بأن الإبداع الحقيقي يُبنى بإمكانات بسيطة وبتفاعل حي نابض مع الناس والزمان والمكان.